ابتسامة لها ما بعدها!
كانت
طلاقة وجهه صلى الله عليه وسلم وابتساماته لا تنفك عنه، إلا حين يغضب إذا
انتهكت محارم الله، ولكن بعضا من تلك الابتسامات اللطيفة الشريفة، تشير إلى
بعض من معجزاته العظيمة، في تالي الأزمان.
"عن
عمرو بنِ عوفٍ الأَنْصاريِّ. رضي اللَّه عنه، أَنَّ رسولَ اللَّه صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بَعَثَ أَبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ، رضي اللَّه
عنه، إلى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجزْيَتِهَا، فَقَدمَ بِمالٍ منَ
البحْرَينِ.
فَسَمِعَت
الأَنصَارُ بقُدومِ أبي عُبَيْدَةَ، فوافَوْا صَلاةَ الفَجْرِ مَعَ رسول
اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَلَمَّا صَلى رسول اللَّه صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوالَهُ.
فَتَبَسَّمَ
رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حِينَ رَآهُمْ. ثُمَّ قال:
(أَظُنُّكُم سَمِعتُم أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيء مِنَ
الْبَحْرَيْنِ)؟ فقالوا: أَجَل يا رسول اللَّه.
فقــال:
(أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسرُّكُمْ،فواللَّه ما الفقْرَ أَخْشَى
عَلَيْكُمْ.
وَلكنّي
أَخْشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَاعَلَيْكُم كما بُسطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَاتَنَافَسُوهَا. فَتَهْلِكَكُمْ كَمَا
أَهْلَكَتْهُمْ) متفقٌ عليه.
في
الحديث من المعاني ما يأتي:
أولا:
إقرار الرسول أصحابه على رغبتهم في نيل حظهم مما عنده من المال.
ثانيا:طمأنتهم
على حصولهم على ما رغبوافيه، من ثلاثة وجوه:
الوجه
الأول: مبادرته بسؤالهم التقريري: (أَظُنُّكُم سَمِعتُم أَنَّ أَبَا
عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيء مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟)
الوجه
الثاني: إظهار طلاقة وجهه لهم وتبسمه في وجوههم، فإن في ذلك يؤكد لهم عزمه
على تحقيق ما أملوه منه.
الوجه
الثالث: لفظه الصريح في قوله لهم: (أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسرُّكُمْ.)
ثالثا:
إخبارهم بأنه لا يخاف عليهم الفقر، لأن الرزق مقسوم، وأن على المسلم مع
اتخاذه الأسباب في الحصول على الرزق أن يطمئن على أن ما كتب الله له لا
يفوته،وقد ذكر العلماء أنه صلى الله عليه وسلم، قد خالف فيقوله: (فواللَّه
ما الفقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ) جرت عادة الناس الذين يشفقون على منتحت
ولايتهم من الأطفال والنساء والضعفاء، فإنهم يظهرون لمن يشفقون عليه الخوف
عليهم من الفقر، لا من الغنى والثراء.
وإنما
خالفهم صلى الله عليه وسلم في ذلك لعلمه ما يحدث لغالب الناس من جمع المال
من غير طريقه الشرعي، ومن تنافس يترتب عليه التحاسد والتباغض وكذلك صرفه
في مجاري غير شرعية، وما يحدثه من طغيان في الأغنياء وتكبر على الفقراء،
فشفقته صلى الله عليه وسلم مبنية على آثار الغنى والثراء على حياة الأمة.
قال
ابن علان الصديقي في شرحه "دليل الفالحين في شرح رياض الصالحين" : "...
قال الطيبي: لأن الأب الدنيوي يخشى على ولده الفقر الدنيوي، والأب الديني
يخشى على ولده الفقر الديني"
رابعا:
إخباره لهم بما بسط الله به من الدنيا على الأمم السابقة، وكيف كان سببا
في هلاكهم بسبب تنافسهم فيه.
خامسا:إعلامهم
بأنه لا يخاف عليهم الفقر، وإنما يخاف عليهم مما أصاب الأمم الماضية، من
التنافس المهلك فيما بسطه عليهم من الدنيا، وأنهم سيبسط الله عليهم
الدنيا،وسيسلكون مسلك تلك الأمم في التنافس الذي سيهلكهم كما أهلك من
قبلهم، وأن تلك سنة من سنن الله لا تتغير ولا تتبدل.
وليس
قصد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك، انصراف أمته عن كسب المال من وجوهه
الشرعية، وصرفه في أبوابه الشرعية، فهو يعلم صلى الله عليه وسلم ما للمال
من خطر في قوة الإسلام والمسلمين، ولذلك أمثلة في حياة أصحابه الذين كانوا
يدعمون الإسلام بأموالهم، كالجهاد في سبيل الله، وإطعام الفقراء والمساكين
وقرى الضيف وغير ذلك من أعمال البر والخير، ومنهم عثمان بن عفان وعبد
الرحمن بن عوف وغيرهما، وإنما قصده كما مضى ما يترتب عليه من الطغيان
والتنافس المؤدي إلى الهلاك.
سادسا:
لقد تحقق شيء مما خافه صلى الله عليه وسلم على أمته،فبسط الله على أصحابه
الدنيا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بوقت قصير جدا، حتى ذكَّروا أنفسهم
بالحالة التي كانوا عليها في عهده والحالة التي أصبحوا عليها بعد ذلك.
كما
في حديث خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ، رضي اللَّه عنه، قال: "هَاجَرْنَا مَعَ
رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم نَلْتَمِسُ وَجهَ اللَّه تعالى
فَوَقَعَ أَجْرُنا عَلى اللَّه، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يأْكُلْ مِنْ
أَجرِهِ شَيْئاً، مِنْهُم مُصْعَبُ بن عَمَيْر، رضي اللَّه عنه، قُتِلَ
يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنا بهَا
رَأْسَهُ، بَدَتْ رجْلاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ، بَدَا
رَأْسُهُ، فَأَمَرَنا رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، أَنْ
نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلى رجْليهِ شَيْئاً مِنَ الإِذْخِرِ.
ومِنَّا
مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ. فَهُوَ يَهدبُهَا" [البخاري ومسلم.]
وفي
حديث أبي هريرة، رضي اللَّه عنه،قال: "لقَدْ رَأَيْتُ سبعِين مِنْ أَهْلِ
الصُّفَّةِ، ما منْهُم رَجُلٌ عليه رداءٌ،إِمَّا إِزَارٌ، وإِمَّا كِسَاءٌ،
قدْ ربطُوا في أَعْنَاقِهِمْ، فَمنْهَا مَا يبْلُغُ نِصفَ السَّاقَيْن.
ومنْهَا ما يَبْلُغُ الكَعْبينِ. فَيجْمَعُهُ بيدِه كراهِيَةَ أَنْ تُرَى
عوْرتُه" [البخاري.]
ولقد
بدأ التنافس المهلك – وإن كان من طرف واحد - في عهد ثالث خلفائه الراشدين
عثمان رضي الله عنه، الذي قتله الظلمة في بيته مع ما له من سابقة في
الإسلام و فضل، و كبر سن.
سابعا:
ومن التنافس الأشد ما حصل بعده من منافسة معاوية لأمير المؤمنين علي رضي
الله عنه،وقصته معروفة، و ما حصل من قتل وقتال، بين أنصار الفريقين في
موقعتي الجمل وصفين،ثم ما لحق بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الحسين بن علي" و من معه من أهل بيته.
و
لو تتبع الباحث ما حصل بين المسلمين في عصورهم اللاحقة، وعهودهم المتتابعة،
و في البلدان التي سكنوها من حدود الصين شرقا، إلى بلاد الأندلس غربا،لرأى
العجب العجاب مما خافه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من
التنافس الشديد المهلك على ما بسطه الله عليها من الخيرات.
وها
نحن اليوم نشاهد البلاء العظيم الذي ابتلينا به، من التنافس الذي شملت
آثاره المهلكة هذه الأمة - أفرادا وأسرا وشعوبا ودولا – في جميع أوطانهم،
وهو في شموله قد عم كل شأن من شئون حياتنا.
شمول
التنافس:
التنافس
شامل لكل ما يكون سببا للتحاسد والتباغض والهلاك:
أولا:
في المال ومصادره للحصول على حيازته بأي طريق،حلالا كانت أو حراما، ونضرب
له ثلاثة أمثلة واضحة:
المثال
الأول: الربا بكل أنواعه، وقد ظهرت آثاره في المال والاقتصاد ظهورا لم يدع
شكا لدى المسلمين وغير المسلمين، في ضرره المادي في الدنيا على كل من
يتعامل به، ولهذا ارتفعت أصوات خبراء المال والاقتصاد غير المسلمين، تدعو
إلى تغيير النهج المالي و الاقتصادي الذي كان سببا في هذه الأزمة الشاملة،
وأشاد بعض المنصفين من غير المسلمين بالنهج الإسلامي الذي أسسه كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، منذ ما يقارب 1450عاما.
افتقر
في هذه الأزمة أغنياء، واختفت فيها بنوك وشركات عملاقة،وفقد فيها ملايين
الموظفين وظائفهم، وأخرج بسببها من كانوا يترفهون في أحسن المنازل من
منازلهم، ولجئوا إلى الجمعيات الخيرية ليسكنوا مع المشردين في مساكن جماعية
سيئة لم يكونوا يظنون أن تكون مأوى لهم.
وبعضهم
اضطرت حكوماتهم أن تنصب لهم خياما في العراء، لا تقيهم من حر صيف مزعج،
ولا برد شتاء قارص، ولا أتربة رياح عاتية، ولاداعي للمزيد من ضرب أمثلة لما
أحدثه التعامل بالربا، فوسائل الإعلام قد أغنت عن ذلك.
المثال
الثاني: تنافس بعض دول المسلمين المتجاورة فيما بينها على أقل مساحة من
الأرض على حدودها،قد لا يزيد عن ميل أو عدد من الأميال، ترتب على ذلك
التنافس عداوة الدول المتجاورة بعضها لبعض، وإغلاق الحدود فيما بينها، ثم
الصدام المسلح بين جيوشها، وهذا المثال لا يخفى على أحد، وما على من يريد
التحقق منه إلا فتح خريطة البلدان الإسلامية السياسية و قراءة ما حصل من
أحداث ولا زال يحدث في القارتين: آسيا وأفريقيا.
المثال
الثالث: التنافس في التفوق الإعلامي المعاصر، الذي تتخذه كل دولة وسيلة
لتجميل نظامها السياسي ومواقفها الصادرة عنه، و منهاجها التعليمي، وأسلوبها
الاقتصادي، و حالتها الاجتماعية، وغير ذلك، حيث تجد هذه الدولة تجند أجهزة
إعلامها ضد الدولة الأخرى التي قد تخالفها فيبعض شئونها السابقة، فتوظف من
الإعلاميين والصحفيين من يسلق الدولة الأخرى بألسنة حداد في الحق وفي
الباطل.
و
تستعين بمتخصصين في كل مجال من المجالات التي تحتاج إلى الصراع فيها مع
الدولة الأخرى، فيعدون لذلك البرامج التي تقضى فيها أوقات طويلة للنيل من
الدولة الأخرى، وغالب المتخصصين في التحليلات والتعليقات، يكونون مستأجرين،
[كنوائح الثكالى] أو أعداء للدولة التي يراد العدوان عليها، وبخاصة في
الفضائيات التي تفتح الباب لجمهور المشاهدين، بعد أن ترتب لهم أسئلة تدعو
إلى مهاجمة الدولة الأخرى ورميها والتنقص بها وبسياستها، سواء كان ذلك حقا
أو باطلا،وهم بذلك يخالفون كتاب الله وسنة رسوله في عدة أمور:
الأمر
الأول: تعمد الظلم الذي هو ظلمات يوم القيامة.
الأمر
الثاني: فقد العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
الأمر
الثالث: الاتصاف بصفات المنافقين الأربع التيمن اتصف بها كان منافقا
خالصا.
الأمر
الرابع: إيجاد العداوة والبغضاء بين الشعوب الإسلامية.
الأمر
الخامس: تحقيق ما يريده أعداء الإسلام والمسلمين، من التفرق بين المسلمين،
و تقوية التنازع بينهم الذي يؤدي للفشل وزيادة الضعف، ليسهل لهم السيطرة
عليهم وعلى بلدانهم ونهب خيراتهم.
ومن
أسوأ ما يحصل في التنافس الإعلامي، في وسائل الإعلام بكل أقسامها، وبخاصة
الفضائيات منها والشبكة العالمية في هذا العصر، في الدول المتعددة أو
الدولة الواحدة،منبث مساوي الأخلاق عامة والدعوة إليها بصورة مباشرة، أو
غير مباشرة.
واستغلال
كل وسيلة تساعد على ذلك، ولا سيما وسيلة استغلال النساء اللاتي ربين على
قلة الحياء،من العري الفاضح، والرقص الماجن،والتمثيليات الخليعة، والأغاني
الرخيصة، والصور الهابطة، فأفسدوا بذلك أخلاق كثير من المسلمين والمسلمات،
وكثرت بسبب ذلك وبقلة التربية الإسلامية العاصمة، المنكرات والفواحش التي
هدمت أسرا ومجتمعات، و أصبحت تشكو منها الشعوب الإسلامية عامة.، [والمال هو
أعظم وسيلة لمسيرة ذلك كله]
ولو
أردنا أن نتتبع ما يندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم:
(وَلكنّي
أَخْشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُم كما بُسطَتْ عَلَى مَنْ
كَانَ
قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا. فَتَهْلِكَكُمْ كَمَا
أَهْلَكَتْهُمْ.)
لعجزنا
عن استقصائه، فقد أوتي صلى الله عليه جوامع الكلم التي لا تترك شاردة ولا
واردة في موضوعها.
والحقيقة
أن أساس التنافس المهلك، هو التنافس في المال، لأن المال يعين صاحبه غالبا
على تحقيق ما يريد تحقيقه، كائنا ما كان مراده، ويترتب على التنافس فيه كل
ما يأتي بعده من التنافس المهلك.
ولهذا
حذر صلى الله عليه وسلم أصحابه - ومراده جميع أمته - وهم يرغبون في نيل ما
عنده من المال، بطريقة مشروعة لا لبس فيه، حذرهم من التنافس فيما يبسط
الله عليهم من الدنيا.
وكأنه
ينظر وهو يتبسم ذلك التبسم النبوي، في شاشة معجزاته التي منحه الله إياها
من علمه بها، إلى وجود هذا البسط وإلى أثره في حياة هذه الأمة
ويتبع
التنافس في المال كل ما يكون سببا لهلاك هذه الأمة من التحاسد والتدابر
والتقاتل...
قال
الإمام شرح النووي على مسلم: "وفي هذا الحديث أن طلب العطاء من الإمام لا
غضاضة فيه، وفيه البشرى من الإمام لأتباعه وفيه من أعلام النبوة إخباره صلى
الله عليه وسلم بما يفتح عليهم وفيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى
هلاك الدين،ووقع في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم مرفوعا
تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، أو نحو ذلك، وفيه إشارة
إلى أن كل خصلة من المذكورات مسببة عن التي قبلها."
وقال
الحافظ ابن حجر رحمه الله، في شرح حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه:
"أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم
انصرف إلى المنبر فقال( إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر
إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض،وإني والله
ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
قال
الحافظ: "... ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا وتقدم في معنى ذلك
حديث عمرو بن عوف مرفوعا ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط
الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم وحديث أبي سعيد في معناه فوقع كما
أخبر وفتحت عليهم الفتوح الكثيرة وصبت عليهم الدنيا صبا" [انتهى من فتح
الباري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد]